في تطور أثار قلقاً واسع النطاق في قطاع الطيران والدفاع، أعلنت مجموعة Everest، المعروفة بتنفيذ هجمات سيبرانية متطورة، تبنيها اختراق شركة Collins Aerospace الأمريكية. جاء هذا الإعلان بعد أيام قليلة من هجوم تسبب في تعطيل أنظمة تسجيل الركاب والصعود في عدد من أبرز المطارات الأوروبية، بما في ذلك مطارات هيثرو في لندن، وبروكسل، وبرلين.
أجبر الانقطاع المفاجئ لأنظمة الشركة العاملين في المطارات على التحول إلى الإجراءات اليدوية، وأدى إلى تأخير وإلغاء مئات الرحلات. كشف هذا الحادث عن هشاشة بالغة في سلاسل الإمداد التقنية التي تدعم حركة الطيران المدني والعسكري على حد سواء.
تعطل أنظمة تسجيل الركاب والصعود في مطارات أوروبية رئيسية بسبب الهجوم على أنظمة Collins Aerospace
تشير التقارير إلى أن الهجوم استهدف برنامج Muse الذي تطوره شركة Collins Aerospace لدعم العمليات التشغيلية الحرجة.
اللافت للنظر أن إعلان مجموعة Everest عن تبني الهجوم تزامن مع اختفاء موقعها التسريبي من الإنترنت بعد دقائق من نشر الخبر، حيث ظهرت رسالة خطأ تشير إلى “Fatal error”. أثار هذا التزامن تكهنات واسعة في أوساط المتخصصين حول احتمال تدخل جهات إنفاذ القانون لإغلاق الموقع، أو قيام المجموعة نفسها بحجبه في محاولة لإخفاء آثارها بعد أن حظيت باهتمام تجاوز التوقعات.
حادثة تتجاوز كونها مجرد عملية ابتزاز عابرة
تأسست شركة Collins Aerospace في عام 2018 بعد اندماج Rockwell Collins مع قسم الطيران في United Technologies، وأصبحت منذ ذلك الحين أحد الأعمدة الرئيسة للبنية التحتية الدفاعية الغربية، حيث تطور أنظمة الطيران والملاحة والتحكم في المهام، بالإضافة إلى مكونات الطاقة والتحكم التي يعتمد عليها كل من القطاعين المدني والعسكري.
أما الشركة الأم، RTX، فهي واحدة من أكبر القوى الصناعية في قطاع الدفاع العالمي، وتمتد قدراتها لتشمل الصواريخ والرادارات والمحركات وأجهزة الاستشعار والحرب الإلكترونية. ويشكل تكاملها مع Collins Aerospace عنصراً حيوياً في شبكة التوريد الدفاعية التي تدعم برامج عسكرية غربية متعددة.
من هنا، اكتسبت الهجمة الأخيرة بعداً استراتيجياً مختلفاً. فهي لا تقتصر على سرقة بيانات أو تشفير خوادم، بل تمس سلامة الأنظمة التي تشكل جزءاً من بنية الأمن القومي. وعندما تعلن جهة فاعلة مثل مجموعة Everest نجاحها في اختراق شركة تنتج مكونات للطائرات والرادارات ومنصات الاتصالات، فإن المخاطر تتخطى بكثير حدود الابتزاز المالي لتصل إلى مستوى التهديد الاستراتيجي المباشر.
يسلط الهجوم الضوء على الترابط العميق بين قطاعي الطيران والدفاع في العصر الرقمي. فثغرة واحدة في نقطة ما من سلسلة التوريد يمكن أن تؤثر على جميع الأطراف المرتبطة بها، بدءاً من شركات الطيران والمطارات وصولاً إلى الجهات العسكرية التي تعتمد على هذه الحلول التقنية المؤمنة. وفي حال تمكن المهاجمون من الوصول إلى بيانات حساسة أو مصنفة، فقد تكون الخسائر أعمق من الجانب المالي وتمتد لتشمل تهديد الاستعداد الدفاعي والأمن الوطني.
تنتمي مجموعة Everest إلى جيل جديد من الجماعات الإجرامية السيبرانية الهجينة؛ فهي لا تنفذ الهجمات بشكل مباشر دائماً، بل تبيع صلاحيات الدخول المسروقة أو تتعاون مع مجموعات متخصصة في مراحل مختلفة من سلسلة الاختراق. لذا فإن اختفاء موقعها بعد إعلان المسؤولية يضيف بعداً غامضاً للقضية: هل تم إيقافها من قبل جهات أمنية؟ أم أنها انسحبت مؤقتاً خوفاً من التصعيد الدولي؟ أم هي خطوة تكتيكية للتخفيف من الضغط الإعلامي؟
تؤكد هذه الحادثة كذلك على التحول الجوهري الذي يشهده عالم برامج الفدية، حيث تنتقل من مجرد نشاط إجرامي لتحقيق أرباح مالية، إلى أداة تُستخدم في صراعات جيوسياسية. فالهجمات على الموردين الأساسيين للبنى التحتية لم تعد تقتصر على طلب الفدية، بل تسعى إلى زعزعة الثقة، وتعطيل سلاسل الإمداد، وإضعاف الأنظمة الحيوية. وفي القطاعات المرتبطة بالدفاع والطيران، يصبح تآكل الثقة خطراً موازياً للاختراق نفسه.
تكشف واقعة Collins Aerospace عن الأهمية القصوى لتعزيز التعاون بين القطاع الخاص، وأجهزة إنفاذ القانون، والوكالات السيبرانية الدولية. كما تعيد التذكير بأن استراتيجيات الأمن التقليدية القائمة على الجدران النارية لم تعد كافية. فالدفاع الحديث يتطلب مراقبة شاملة ومستمرة لسلاسل التوريد، وبنى شبكات مقسمة تحد من حركة المهاجمين داخل الشبكات، وتبادلاً استخباراتياً دائماً لرصد الهجمات واحتوائها قبل أن تتوسع.
في الختام، لا يمكن النظر إلى هذا الهجوم كحادثة عابرة ضمن موجة هجمات برامج الفدية، بل بوصفه إشارة إلى تقاطع خطير بين الجريمة السيبرانية والنشاط المدعوم من دول. فاختراق شركة مزودة بحلول دفاعية قد يكون الشرارة الأولى لسلسلة تهديدات تمس أمن الدول نفسها. ومع استمرار التحقيقات، يظل الثابت الوحيد أن الجهات المهاجمة تتعلم بسرعة غير مسبوقة، وأن كل حادثة من هذا النوع تمثل اختباراً حقيقياً لقدرتنا على مجاراة هذا المستوى من السرعة في التعلم والاستجابة.









