
أصبح التزييف العميق أحد أخطر أدوات التضليل في العصر الرقمي، بعد أن قفز الذكاء الاصطناعي بهذه التقنية إلى مستوى غير مسبوق. تقرير صادر عن Entrust أشار إلى أن عام 2024 شهد إنتاج مقطع تزييف عميق (Deepfake) كل خمس دقائق، فيما توقعت تقديرات البرلمان الأوروبي أن يتجاوز عدد المقاطع المتداولة في الاتحاد الأوروبي هذا العام ثمانية ملايين. هذه الموجة قادرة على زعزعة استقرار دول من دون إطلاق رصاصة واحدة، وقد سبق وأن أظهرت أعمال الشغب في بعض البلدان الأوروبية كيف يمكن لمزاعم كاذبة على منصات التواصل أن تتحول بسرعة إلى عنف واقعي.
مقاطع مصورة لقادة يلقون تصريحات لم تصدر عنهم، تسجيلات صوتية مزورة تحمل تعليمات كاذبة، أو صور معدلة بإتقان، كلها أدوات قادرة على التأثير على الحكومات أو تغيير اتجاه الرأي العام. حتى الشركات باتت عرضة للهجمات، إذ يمكن لإعلان مزيف أو بيان مجلس إدارة مختلق أن يهز ثقة المستثمرين ويؤثر مباشرة على أسعار الأسهم. وقد زاد الوضع تعقيداً مع قيام بعض المنصات الاجتماعية بتقليص مستوى ضبط المحتوى، مما فتح الباب لانتشار أوسع لهذا النوع من المواد.
استخدام التزييف العميق في الصراعات والسياسة يغير طبيعة الحروب السياسية والإعلامية
السيطرة على المعلومات كانت دوماً بوابة للسيطرة على السردية العامة. في الماضي، لعبت الصحافة والتلفزيون الدور الرئيس، أما اليوم فشبكات التواصل الاجتماعي تصل إلى شرائح أوسع بكثير. الخطر الحقيقي يكمن في إغراق الفضاء الإعلامي بالمحتوى المضلل وزعزعة الثقة فيما يراه الناس ويسمعونه، ما يجعل وعيهم قابلاً للتوجيه والتلاعب.
في السنوات الأخيرة، تطرقت تقارير عدة إلى حوادث تشير إلى أن أنظمة معينة زادت من وتيرة تدخلها في سياسات أنظمة أخرى عبر نشر معلومات مضللة. ولم يقتصر الاستخدام على الساحة السياسية، بل امتد إلى النزاعات المسلحة. من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا والحرب القصيرة بين الهند وباكستان، فقد انتشرت مقاطع من التزييف العميق قام كل طرف بتوظيفها لخدمة دعايته.
الشركات في مواجهة خطر زعزعة الثقة وضرورة مواجهة التضليل المنظم
المؤسسات الاقتصادية ليست بمنأى عن هذا التهديد. خصوم أو منافسون قد يطلقون مقاطع تستهدف منتجات أو خدمات حساسة، مثل فيديو مزيف لمدير تنفيذي رفيع يؤكد أن منتجاً ما غير آمن، وهو ما يمكن أن يدفع العملاء إلى فقدان الثقة ويزعزع ثقة المستثمرين. التأثير قد يمتد إلى تراجع أسعار الأسهم، تعطيل سلاسل الإمداد، وحتى إعادة النظر في العقود.
ثمانية من بين كل عشرة مديرين تنفيذيين أعربوا عن قلقهم من الأضرار المحتملة التي قد تلحق بأعمالهم جراء التضليل المدفوع بالذكاء الاصطناعي. الأخطر أن كشف زيف المقاطع لا يعني بالضرورة إنهاء آثارها، إذ تبقى الشكوك قائمة، وتستمر حملات التضليل في الادعاء أن السلطات تخفي الحقيقة.
سباق تشريعي عالمي لمواجهة الخطر لكن التقنية تتطور أسرع من القوانين
دول عدة بدأت بالفعل في تشديد تشريعاتها لمكافحة التزييف العميق. الاتحاد الأوروبي أقر قانون AI Act الذي يحدد قواعد لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل آمن وشفاف، فيما تعمل الدنمارك على تحديث قوانين حقوق الملكية الفكرية للحد من إنتاج ومشاركة مقاطع التزييف العميق ومنح الأفراد سلطة التحكم في صورهم وأصواتهم. في الولايات المتحدة، يلزم قانون Take It Down Act بإزالة المقاطع الضارة خلال 48 ساعة ويفرض عقوبات فيدرالية على من يوزعها.
ويؤكد خبراء أن الحكومات والمنظمات الدولية تتحمل دوراً محورياً في التصدي للاحتيال القائم على الذكاء الاصطناعي، سواء عبر سن القوانين أو وضع السياسات وتعزيز التعاون الدولي.
مواجهة التزييف العميق بالذكاء الاصطناعي نفسه مع إدراك حدود الحل
المفارقة أن الذكاء الاصطناعي يمثل أيضاً الأداة الأبرز في مكافحة التزييف العميق. نماذج متقدمة يمكنها تحليل أنماط اللغة والسياق لكشف المحتوى المزيف والتصدي له من خلال التحقق من الحقائق وضبط المحتوى. لكن التحدي يكمن في صعوبة الكشف مقارنة بسهولة الإنتاج، إذ يتطلب الأمر مجموعات بيانات ضخمة وموسومة بدقة بين الحقيقي والمزيف.
المشاهير والسياسيون يسهل حمايتهم نسبياً لتوافر كم كبير من بياناتهم، بينما الأفراد العاديون أصعب بكثير. كما أن أنظمة الكشف غالباً ما تفشل أمام تقنيات جديدة لم تتدرب عليها من قبل، ما يجعل المعركة بين صانعي التضليل وأنظمة الحماية سباقاً مفتوحاً قد يحدد شكل الحروب الإعلامية في المستقبل.