
في عالم الجرائم السيبرانية، اعتدنا أن تنتهي عمليات الاختراق عند سرقة البيانات أو ابتزاز الشركات، لكن تقرير Sophos X-Ops الأخير يكشف أن القصة لا تنتهي هنا. بمجرد جمع المبالغ الهائلة من الفديات وبيع البيانات المسروقة، يبدأ مجرمو الإنترنت في مرحلة جديدة أكثر تعقيداً: تنويع استثماراتهم في الاقتصاد الحقيقي وغسيل الأموال عبر شبكات معقدة تشمل العقارات، والمطاعم، وحتى شركات الأمن السيبراني نفسها.
من الاختراق إلى الاستثمار: التنويع كوسيلة للبقاء
لا يكتفي مجرمو الإنترنت بإنفاق الأموال على الرفاهية أو إخفائها، بل يسعون إلى تنويع مصادر الدخل عبر استثمارات غير تقليدية. يشير التقرير إلى أن بعض منتديات الإنترنت المظلم تحتوي على أقسام مخصصة لمناقشة “الأعمال الشرعية” — وهو تعبير يستخدمه المجرمون للإشارة إلى واجهات أعمال تبدو قانونية، لكنها في الواقع تخدم أغراض غسيل الأموال.
في مقابلة مع أحد مؤسسي مجموعة LockBit الشهيرة، كشف أنه يمتلك ثلاثة مطاعم في الصين واثنين في نيويورك. السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت هذه المطاعم مجرد استثمارات شرعية، أم أنها واجهات لغسيل الأموال؟ الإجابة تظل غامضة، لكن الخبراء يؤكدون أن هذه الأنشطة توفر غطاءً مثالياً لإضفاء الشرعية على الأموال القذرة.
الشركات الوهمية والبنوك الخارجية: غسيل الأموال بطريقة احترافية
للتغلب على التعقيدات القانونية، يعتمد المجرمون على إنشاء شركات وهمية (Shell Companies) في مناطق مثل “بيليز” و”دبي” و”جزر العذراء البريطانية”، حيث يسهل إخفاء هوية المالكين الحقيقيين. تُستخدم هذه الشركات كواجهات لإتمام صفقات قانونية تخفي أصول الأموال غير المشروعة.
تتوفر خدمات في الإنترنت المظلم لإنشاء هذه الشركات تحت مسمى “خدمات إنشاء الشركات الجاهزة (Shell-companies-as-a-Service)”، بأسعار تبدأ من 3900 دولار للشركة الواحدة، متضمنة حسابات بنكية وعناوين مكاتب افتراضية. في بعض الحالات، يتم تقديم خدمات متقدمة مثل “Cuckoo Smurfing”، وهو أسلوب لخلط الأموال غير المشروعة مع أموال شرعية عبر شركات تحويل الأموال، مما يصعّب على الجهات الرقابية تتبع حركة الأموال.
الاستثمار في التكنولوجيا: عندما يموّل المجرمون الأمن السيبراني!
في مفارقة عجيبة، أظهرت بعض المنتديات الإجرامية اهتماماً متزايداً بالاستثمار في شركات الأمن السيبراني نفسها، إما بشكل مباشر أو عبر شراء أسهم في شركات معروفة. في إحدى المشاركات، نصح أحد المستخدمين زملاءه بالاستثمار في شركة أمن سيبراني معروفة جداً، مبرراً ذلك بأن “الشركة في طريقها للاستحواذ على شركات أصغر، مما سيرفع من قيمة الأسهم”.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد؛ بل ظهر مشروع لإنشاء شركة مختصة في فك تشفير (Hash Decryption) باستخدام خدمات Google Cloud وAWS وAzure، مما يتيح لهم كسر تشفير كلمات المرور المسروقة من هجمات إلكترونية سابقة.
العقارات والذهب والألماس: غسيل براق للأموال
لم تقتصر استثمارات المجرمين الإلكترونيين على التكنولوجيا؛ بل امتدت إلى العقارات في دبي وروسيا، والذهب في سويسرا، والألماس في إفريقيا. يكشف التقرير عن طرق غسيل أموال مبتكرة، مثل شراء قطع أراضٍ في مناطق نائية لا تتطلب إثباتات خلفية مالية، أو تحويل الأموال إلى ذهب وألماس عبر تجار معتمدين في منتديات الإنترنت المظلم.
أحد المستخدمين شرح كيف يقوم بتغيير الأموال المسروقة إلى ألماس غير مصنّف، ومن ثم إعادة بيعه في أسواق أوروبا وآسيا عبر وسطاء مقابل إيصالات شراء قانونية. يتم بعد ذلك إيداع العوائد في بنوك دولية ضمن حسابات تحت أسماء وهمية، مما يصعّب على الجهات التنظيمية تعقب مصدر الأموال.
مفاجآت في قائمة الاستثمارات: التعليم والمطاعم وحتى الآيس كريم!
تحتوي منتديات الإنترنت المظلم على مشاركات مثيرة للدهشة؛ أحدهم سأل عن جدوى الاستثمار في كشك لبيع الآيس كريم في إحدى المدن الروسية، وبدأ المستخدمون في مناقشة تكاليف التأسيس وجدوى المشروع، بل إن أحدهم اعترف بإحراق كشك منافس في أوائل الألفينات ليزيح المنافسة!
وفي مفارقة أخرى، يسعى بعض المجرمين إلى فتح مدارس لتعليم البرمجة تستهدف الشباب، بهدف الاستفادة من خبراتهم لاحقاً في تنفيذ هجمات إلكترونية بشكل أكثر احترافية.
خدمات التنظيف القانوني للأموال: دروس وتعليمات على الإنترنت المظلم
في بعض المنتديات، تتوفر أدلة إرشادية بعنوان “كيف تظهر بمظهر قانوني أمام السلطات”، حيث يشرح المجرمون كيفية تأسيس واجهات أعمال قانونية وتجنب الشبهات. تتضمن النصائح عدم الظهور بمظاهر الثراء المبالغ فيه، والابتعاد عن شراء السيارات الفارهة، والتركيز على استثمارات طويلة الأمد في مجالات مثل العقارات والخدمات.
كما تحتوي المنتديات على تعليمات تفصيلية حول كيفية إنشاء حسابات بنكية في دول مثل بليز وجزر كايمان، وطرق استغلال ثغرات في نظم المراقبة المصرفية لتسهيل عمليات التحويل.
تقرير Sophos X-Ops يضع بين أيدينا حقائق مذهلة حول استثمارات المجرمين الإلكترونيين في الاقتصاد الحقيقي، حيث يتجاوز الأمر مجرد سرقة بيانات رقمية ليصل إلى إنشاء إمبراطوريات مالية مبنية على واجهات شرعية. التحدي القادم أمام السلطات يكمن في تتبع هذه الأموال واستعادتها، في معركة ليست فقط رقمية، بل اقتصادية على أرض الواقع.