
من المتوقع أن تبلغ تكلفة الجرائم السيبرانية على الاقتصاد العالمي نحو 24 تريليون دولار بحلول عام 2027، ما يضع المؤسسات في قلب تحدٍ متنامٍ لا يقتصر على الأثر المالي فقط، إذ يشمل الأبعاد القانونية والسمعة المؤسسية. في ظل هذا الواقع، أصبح أمن الفضاء السيبراني مسألة استراتيجية ترتبط مباشرة بإدارة المخاطر على مستوى مجالس الإدارة.
إن الإدارة الفعالة للأمن السيبراني تتطلب رؤية تتجاوز البُعد التقني لتصل إلى صميم الحوكمة المؤسسية. ويمكن لمجالس الإدارة تحديد شهية المخاطر، والإشراف على عمليات إدارتها، وتخصيص الموارد، وضمان الجاهزية للتصدي للتهديدات السيبرانية، فضلاً عن متابعة تقارير المخاطر والحوادث في إطار مسؤولياتهم العامة.
النهج القائم على المخاطر في الأمن السيبراني
تعتمد المؤسسات عادةً على أحد نهجين لتعزيز قدراتها السيبرانية: الأول هو “النهج القائم على النضج”، والثاني هو “النهج القائم على المخاطر”. وبينما يحظى النهج الأول بانتشار واسع، ويعتمد على معايير وأفضل الممارسات المعروفة، فإنه لا يخلو من أوجه القصور.
فهذا الأسلوب كثيراً ما يستند إلى تقييمات ذاتية يمكن أن تتأثر بعوامل شخصية مثل مهارات التواصل والانحياز وخبرة المقيم، كما أن تحقيق مستويات نضج محددة لا يضمن بالضرورة الحماية من الهجمات السيبرانية، وقد يخلق إحساساً زائفاً بالأمان. كما أنه يتطلب موارد ضخمة قد تُشتت الجهود عن أولويات أكثر أهمية.
أما النهج القائم على المخاطر، فيتميز بالمرونة والتخصيص وفقاً لاحتياجات المؤسسة، حيث يبدأ بتحديد المخاطر السيبرانية الحرجة وترتيبها حسب الأولوية، ومن ثم تطبيق الضوابط المناسبة للحد منها. ويتضمن هذا النهج مراقبة مستمرة وإعادة تقييم لضمان فاعلية الضوابط في مواجهة التهديدات المتغيرة باستمرار.
ويُعد هذا النهج أكثر كفاءة، إذ يمكّن المؤسسات من مواءمة استراتيجياتها السيبرانية مع طبيعة مخاطرها الفريدة، ويرسّخ ثقافة وقائية من خلال المراجعة المستمرة للمخاطر، مما يسهم في تقليص أثر الحوادث الإلكترونية، ويساعد على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن تخصيص الموارد لحماية الأصول الأكثر أهمية.
بناء شبكة مخاطر قابلة للقياس
تستفيد المؤسسات من أدوات تحليل المخاطر الكمية مثل “تحليل مونت كارلو” أو نموذج FAIR، الذي يمكّنها من تقدير الأثر المالي المحتمل للمخاطر السيبرانية وترتيب أولويات المعالجة وفق نتائج واقعية. وتُعد هذه المنهجية حجر الزاوية في مواءمة الأمن السيبراني مع إدارة المخاطر المؤسسية الشاملة.
ويتيح قياس الخطر السيبراني بلغة الأرقام للقادة التنفيذيين اتخاذ قرارات استثمارية مدروسة في مجال الأمن السيبراني، كما يُمكّنهم من تقليل أثر الانقطاعات عبر تحديد التهديدات والثغرات، وتقييم أثر الحوادث على الإنتاجية والجوانب القانونية والسمعة المؤسسية.
يمكن للقيادات تقييم مخاطر الأمن السيبراني بشكل أدق عندما تكون قابلة للقياس من منظور مالي.
الصورة من إعداد FAIR Institute

الصورة من إعداد FAIR Institute
قياس النتائج وتفعيل الإجراءات
تُعد مؤشرات المخاطر الرئيسية (KRI) مؤشراً على مستوى الخطر الحالي، بينما تعكس مؤشرات الأداء الرئيسية (KPI) مدى توافق الأداء مع شهية المؤسسة للمخاطر. ومن خلال الربط بين هذين النوعين من المؤشرات، يمكن لفِرق الأمن السيبراني مساعدة القيادة في تحديد مجالات القبول أو القلق، وتحفيز الحوار الاستراتيجي لاتخاذ التدابير المناسبة.
كما يسهّل النهج القائم على المخاطر ترجمة قرارات الإدارة التنفيذية إلى تطبيق فعلي للضوابط، بما يضمن توجيه الجهود نحو هدف مؤسسي موحد. ويُوصى باتباع خارطة طريق شاملة تبدأ بتقييم دقيق للمخاطر، وتطوير مؤشرات ملائمة، وتطبيق آليات إدارة متكاملة، مع مراقبة الأداء بشكل مستمر.
كما تؤدي التقنيات دوراً محورياً في أتمتة العمليات، وتنفيذ الضوابط الأمنية، ومتابعة المؤشرات في الزمن الحقيقي.
ختاماً، ومع تغير مشهد التهديدات، لم يعد النهج القائم على النضج كافياً في حماية المؤسسات، إذ يتطلب الأمر تبنّي استراتيجية قائمة على فهم المخاطر وتحديد الأولويات. ويوفر هذا التحول فرصة لتعزيز الكفاءة، وتحقيق أداء أمني مستدام، وبناء قدرات استجابة مرنة وسريعة أمام التحديات المستجدة.
الأمن السيبراني مسؤولية جماعية تتطلب تعاوناً شاملاً من جميع أصحاب المصلحة. واعتماد النهج القائم على المخاطر لا يضمن فقط الحماية من الهجمات، إنما يُرسّخ أسس الحوكمة الفاعلة ويبني منظومة رقمية أكثر أماناً للجميع.